كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعليم الحلال والحرام وقوانين القياس وأصول الاجتهاد، وضعف بأنه يلزم أن لا يكمل لهم قبل ذلك اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. والمختار في الجواب أن الدين كان أبدًا كاملًا بمعنى أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت- ناسخة أو منسوخة أو مجملة أو مبينة أو غير ذلك- كافية بحسب ذلك الوقت وفي آخر زمان البعثة حكم ببقاء الأحكام على حالها من غير نسخ وزيادة ونقص إلى يوم القيامة. قال نفاة القياس: إكمال الدين أن يكون حكم كل واقعة منصوصًا عليه فلا فائدة في القياس. وأجيب بأن إكماله هو جعل النصوص بحيث يمكن استنباط أحكام نظائرها منها. قالوا: تمكين كل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه لا يكون إكمالًا للدين وإنما يكون إلقاء للناس في ورطة الظنون والأوهام. وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعًا بأنه عامل بحكم الله. روي أنه لما نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فرح الصحابة وأظهروا السرور إلاّ أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا: ليس بعد الكمال إلاّ الزوال. وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلاّ أحداَ وثمانين يومًا أو اثنين وثمانين يومًا ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص. قال العلماء: كان ذلك جاريًا مجرى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزًا. واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين- سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل- لا يحصل إلاّ بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلاّ وأصله منه. والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع. ثم قال: {وأتممت عليكم نعمتي} أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين {ورضيت} أي اخترت {لكم الإسلام دينًا} نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت. واعلم أن قوله: {ذلكم فسق} إلى هاهنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس من بين سائر الأديان. ثم بين الرخصة بقوله: {فمن اضطر في مخمصة} أي في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن {غير متجانف} منصوب باضطرّ أو بمضمر أي فتناول غير منحرف إلى إثم بأن يأكل فوق الشبع أو عاصيًا بسفره، وقد مرّ القول في هذه الرخصة مستوفي في سورة البقرة.
{يسألونك ماذا أحل لهم} كأنهم حين تلي عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم والسؤال في معنى القول. وإنما لم يقل ماذا أحل لنا على حكاية قولهم نظرًا إلى ضمير الغائب في: {يسئلونك} ومثل هذا يجوز فيه الوجهان. تقول: أقسم زيد ليفعلن أو لأفعلن. أما سبب النزول فعن أبي رافع أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فلم يدخل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلبًا إلاّ قتلته حتى بلغت العوالي فإذا أمرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي تقتلها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية. فأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي وأذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها. وقال سعيد بن جبير: نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير حين قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإنها تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقتل فلا ندرك وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزل: {قل أحل لكم الطيبات} أي ما ليس بخبيث منها وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد، أو أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة، واعلم أن الأصل في الأعيان الحل لأنها خلقت لمنافع العباد {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] واستثنى من ذلك أصول: الأوّل: تنصيص الكتاب على تحريمه كالميتة والدم وغيرهما. الثاني: تنصيص السنة كما روي عن جميع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية والبغال كالحمير. ولا تحرم الخيل عند الشافعي لما روي عن جابر أنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. الثالث: ما هو في معنى المنصوص كالنبيذ فإنه مسكر كالخمر فيشاركها في التحريم. الرابع: كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور وقد مر معنى السبع عن قريب فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر والفهد والدب والببر والقرد والفيل لأنها تعدو بأنيابها، ولا يحل من الطيور البازي والشاهين والصقر والعقاب وجميع جوارح الطير. الخامس: ما أمر بقتله من الحيوانات فهو حرام لأنّ الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنه من اقتنائه.
ولو كان مأكولًا لجاز اقتناؤه للتسمين وإعداده للأكل وقت الحاجة. ومنه الفواسق الخمس. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة» السادس ما ورد النهي عن قتله فهو حرام لأنه لو كان مأكولًا لجاز ذبحه ليؤكل كما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف، وكذا الصرد والنملة والنحلة والهدهد والخفاش. السابع: الاستطابة والاستخباث لقوله تعالى: {قل أحل لكم الطيبات} قال العلماء: فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة وذلك يخالف موضوع الشرع. فالعرب أولى أمة بالاعتبار لأنّ الدين عربي وهم المخاطبون أوّلًا وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس، ولكن المعتبر استطابة سكان القرى والبلاد دون أجلاف البوادي الذين لا تمييز لهم. وأيضًا يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات. وأيضًا المعتبر حال الخصب والرفاهية دون حال الجدب والشدة. والحشرات بأسرها مستخبثة كالذباب والخنفساء والجعلان وحمار قبان إلاّ الضب فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا آكله ولا أحرمه» ومن الأصول أنه لا يجوز أكل الأعيان النجسة في حال الاختيار وكذا أكل الطاهر إذا نجس بملاقاة النجاسة كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل. ومن الأصول الكسب بمخامرة النجاسة ولكن كسب الحجام حلال عند الشافعي، ومن الأصول ما يضر كالزجاج والسم والنبات المسكر أو المجنن. قوله سبحانه: {وما علمتم من الجوارح} معناه أحل لكم صيد ما علمتم على حذف المضاف لدلالة {فكلوا مما أمسكن عليه} ويجوز أن تكون «ما» شرطية والجزاء {فكلوا} وعلى هذا يجوز الوقف على {الطيبات} والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والبازي والصقر. قال تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} [الأنعام: 6] أي كسبتم. وجوّز بعضهم أن يكون من الجراحة. وقال: ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل. وانتصاب {مكلبين} على الحال من {علمتم} وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب {علمتم} أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهرًا في علمه مدربًا فيه موصوفًا بالتكليب. نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صادها غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله لأنّ قوله: {مكلبين} يدل على كون هذا الحكم مخصوصًا بالكلب. والجمهور على أنّ الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع. قالوا: المكلب مؤدب الجوارح ورائضها لأنّ تصطاد لصاحبها وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه أو لأنّ كل سبع يسمى كلبًا كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلّط عليه كلبًا من كلابك فأكله الأسد».
أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: فلان كلب بكذا إذا كان حريصًا عليه. وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها {تعلمونهن} حال ثانية أو استئناف مما علمكم الله من علم التكليب لأنّ بعضه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وإنزجاره بزجره. واعلم أنه يعتبر في صيرورة الكلب معلمًا أمور منها: أن ينزجر بزجر صاحبه في ابتداء الأمر وكذا إذا انطلق واشتد عدوه وحدّته، يشترط أن ينزجر بزجره أيضًا على الأشبه فبه يظهر التأدب. ومنها أن يسترسل بإرسال صاحبه أي إذا أغري بالصيد هاج. ومنها أن يمسك الصيد لقوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} وفي هذا اعتبار وصفين: أحدهما أن يحفظه ولا يخليه، والثاني أن لا يأكل منه لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: فإن أكل فلا تأكل منه فإنما أمسكه على نفسه. وجوارح الطير يشترط فيها أن تهيج عند الإغراء وأن تترك الأكل ولكن لا مطمع في انزجارها بعد الطيران ويشترط عند الشافعي تكرر هذه الأمور بحيث غلب على الظن تأدب الجارحة بها وأقله ثلاث مرات. ولم يقدر الأكثرون عددالمرات كأنهم رأوا العرف مضطربًا، وطباع الجوارح مختلفة فيرجع إلى أهل الخبرة بطباعها. وعن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل فعندهم الإمساك هو أن يحفظه ولا يتركه. ومعنى الآية كلوا مما تبقي لكم الجوارح وإن كان بعد أكلها منه. و«من» في {مما أمسكن} قيل زائدة نحو {كلوا من ثمره} [الأنعام: 141] وقيل مفيدة وذلك أن بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش. وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني: يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب. والفرق أن تأديب الكلب بالضرب على الأكل ممكن وتأديب الطير غير ممكن. ولا خلاف أنه إذا كانت الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح وقتلته وأدركه الصائد ميتًا فهو حلال، وجرح الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح ففي حله خلاف. أما قوله سبحانه: {واذكروا اسم الله عليه} فالضمير إما أن يعود إلى {ما أمسكن} أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى {ما علمتم} أي سموا عليه عند إرساله أو إلى الأكل، وعلى هذا فلا كلام. وعلى الأول فالتسمية محمولة على الندب عند الشافعي، وعلى الوجوب عند أبي حنيفة وسيجيء تمام المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
{اليوم أحلّ لكم الطيبات} فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره {وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم} الأكثرون على أنّ المراد بالطعام الذبائح لأنّ ما قبل الآية في بيان الصيد والذبائح ولأنّ ما سوى الصيد والذبائح محللة قبل إن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة.
وعن بعض أئمة الزيدية أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. وقيل: إنه جميع المطعومات {وطعامكم حلّ لهم} أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعلى إطعامهم من ذبائحنا. وأيضًا فالفائدة في ذكره أن يعلم أن إباحة الذبائح حاصلة في الجانبين وليست كإباحة المناكحة فإنها غير حاصلة في الجانبين {والمحصنات} الحرائر أو العفائف من المؤمنات، وعلى الثاني يدخل فيه نكاح الإماء. وقد يرجح الأول بأنه تعالى قال: {إذا آتيتموهن أجورهن} ومهر الإماء لا يدفع إليهن بل إلى ساداتهن، وبأن نكاح المحصنات هاهنا مطلق ونكاح الأمة مشروط بعدم طول الحرة وخشية العنت، وبأن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهرًا على تحريم نكاح الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم. ولو حملنا المحصنات على الحرائر لزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات، وبأن وصف التحصين في حق الحرة أكثر ثبواتأً منه في حق الأمة لأن الأمة لا تخلو من البروز للرجال {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} احتج بها كثير من الفقهاء في أنه لا يحل نكاح الكتابية إلاّ إذا دانت بالتوارة والإنجيل قبل نزول الفرقان، لأنّ قوله: {من قبلكم} ينافي من دان بهما بعد نزوله. وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات أصلًا متمسكًا بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركًا أعظم من قولها إن ربها عيسى. وأوّل الآية بأنّ المراد التي آمنت منهن. فمن المحتمل أن يخطر ببال أحد أن الكتابية، إذا آمنت هل يحل للمسلم التزوج بها أم لا؟ وعن عطاء أن الرخصة كانت مختصة بذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة ولأن الاحتراز عن مخالطة الكفار واجب. {ولا تتخذوا بطانة من دونكم} [آل عمران: 118] وأي خلطة أشد من الزوجية وقد يحدث ولد ويميل إلى دين الأم. وقال سعيد بن المسيب والحسن: الكتابيات تشمل الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن. وأكثر الفقهاء على أنّ ذلك مخصوص بالذمية فقط وهو مذهب ابن عباس فإنه قال: من أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل لقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] واتفقوا على أن المجوس قد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. {إذا آتيتموهن أجورهن} فيه أن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقًا كان كالزاني. والزنا ضربان: سفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان، واتخاذ خدن وهو على سبيل الإسرار فحرمهما الله تعالى في الآية وأحلّ التمتع بهن على سبيل الإحصان وهو التزوج بالشروط والأركان.